نظرية الفاعلية التواصلية عند هابرماس :
التفكير في التواصل هو في عمقه التفكير في مسألة الحداثة ، ويتعلق الأمر بنمطين اثنين:
نمط ذاتي : ويمثله ماكس فيبير والذي نظر إليه من خلال ما يسميه العقلنة بالغاية ( أي أن الفاعل الاجتماعي يحدد فعله تحديدا هادفا ، أي أنه يجعل منه فعلا هدفا معينا ) ,
نمط تواصلي : وهو الذي عبر عنه هابرماس في نظريته ، باعتباره ممارسة اجتماعية رمزية تصاغ بواسطة اللغة العادية كما أنها تتحدد بالرجوع إلى المعايير الواجب الرجوع إليها ( إلى المحددات الاجتماعية والثقافية ) .
ينعث هابرماس العمل العقلاني بالقياس إلى غاية ، اما بوصفه اختيارا عقلانيا أو تنسيقا بين الإثنين .
ثم ينتقل هابرماس إلى التحدث عن النشاط التواصلي فيقصد به ذلك التفاعل المصاغ بواسطة الرموز وهو يخضع لضرورة المعايير الجاري بها العمل ، والتي تحدد انتظارات مختَلَف أنماط السلوك المتبادل ( التواصل بين ذاتين فاعلتين على الأقل) وهذا هو معنى الفعل الاجتماعي عند ماكس فيبير.
انطلاقا من هذا التمييز بين هذين النمطين من الفاعلية والنشاط يمكن التفريق بين الأنشطة الاجتماعية التي يسيطر عليها النشاط العقلاني بالقياس إلى غاية ، أو تلك التي يبرز فيها التفاعل أو النشاط التواصلي بوصفه يتمثل في مجموعة من المعايير التي توجه التفاعلات المعبر عنها بواسطة اللغة، غير أنه توجد أنظمة فرعية ؛ النظام الاقتصادي أو أجهزة الدولة التي تبرز فيها مبادء النشاط العقلاني ، بالقياس إلى الغاية ، وبالمقابل هناك أنظمة فرعية أخرى من العائلة أو القرابة ، تقوم بوظائف عديدة، وتنقل الكثير من المعارف العلمية ، ولكنها تعتمد أساسا على القواعد الأخلاقية للتفاعل .
يصوغ هابرماس عدة أسئلة مثل : كيف يكون النشاط ممكنا باعتياره نشاطا اجتماعيا؟ بل وكيف يكون النشاط الاجتماعي ممكنا؟ وكيف يكون النظام الاجتماعي ممكنا؟ هذه هي الاسئلة الأساسية التي صاغها هابرماس في سياق بحثه عن صياغة عناصر نظرية لمسألة الفاعلية التواصلية .
وهو يرى أن نظرية الفعل تكون مؤهلة للجواب على هذه الأسئلة ، اذا كانت قادرة على الاشارة إلى الشروط التي يكون فيها الآخر قادرا على ربط أفعاله بأفعال الذات . ذلك أن النظرية السوسيولوجية للفعلن لا تهتم فقط بالخصائص الصورية للنشاط الاجتماعي بشكل عام ، وانها تهتم كذلك بآليات التنسيق ، بين الأفعال والممارسات التي تساعد على الربط المتواصل والثابت لمحتلف أشكال التفاعلات .
قد أكتفي بالقول أن هابرماس بلاحظ أن هناك فوارق كثيرة بين النظرية السوسيولوجية والفلسفية فيما يخص الفعل والممارسة، ذلك أن النظرية السوسيولوجية للفعل لا تهتم بالمشاكل الأساسية المتعلقة بحرية الاختيار والسببية ، أو بعلاقة الروح بالجسد أو بالقصدية...
وهي موضوعات تناولتها الأنتولوجيا والابستمولوجيا ، في حين أن ضرورة تفسير النظام الاجتماعي متذاوت ، يؤدي بالنظرية السوسيولوجية للفعل إلى الابتعاد عن المقدمات الخاصة لفلسفة الوعي ( هيجل وكانط).
من أجل تعميق مفهوم النشاط التواصلي ودعمه نظريا . لجأ هابرماس إلى ادخل مفهوم العالم المعيش ؛ فإن كان التواصل في حاجة إلى سياق فإن العالم المعيش لا يقتصر دوره على توفير بعض عناصر هذا السياق .
لأنه لا يشكل خزانا من القناعة ، يعمل المشاركون فيها التفاعل على استلهام بعض علاماته ورموزه باتباع الحاجة إلى التفاهم الذي يتولد داخل وضعية محددة بواسطة التأويلات القابلة لفلسفة ( الإجماع ) عكس ليوتار ( الإختلاف).
أدخل هابرماس اذن مفهوم عالم المعيش بوصفه خلفية للنشاط التواصلي ، أي أن المشاركين في التواصل يرتبطون بالتراث الثقافي يستمدون منه بعض العناصر.
ويقوم أيضا بالاندماج الاجتماعي وخلق التضامن .
يقوم أيضا بتشكيل الهويات الفردية ( هوية الشخص نفسه ).
بهذا يمكن القول أن التجرية التواصلية عند هابرماس تأتي من العلاقة التفاعلية التي تربط شخصين على الأقل داخل العالم المعيش ، وفي إطار من التوافق اللغوي والتذاوتي .
ومن ثم فإن كل شخص أو فاعل يملك القدرة على الكلام والفعل يمكنه أن يشارك في التواصل، وأن بعلن عن ادعاءاته للصلاحية ، لكن شريطة أن يراعي مقاييس المعقولية والحقيقة والدقة والصدق.
كما أن الفاعلية هي عبارة عن صياغة جديدة لمسألة العقلانية في الفكر الغربي ، وحين يدعو هابرماس إلى نظرية المجتمع ، فإنه ينظر إليها من زاوية المفاهيم الأساسية للأنشطة العقلانية، ومن ثم فإن نظرية الفاعلية ليست مرتبطة فقط بنظرية المجتمع ولكنها تؤسس كذلك لنظرية المعرفة .
إن التفاهم ضرورة حتمية في نظرية التواصل عند هابرماس وذلك من أجل الوصول إلى نوع من الاتفاق ، يؤدي إلى التذاوت المشترك ، وإلى التفاهم والثقة المتبادلين ، بل وإلى التقارب في النظرات والآراء .
لذا اهتم هابرماس باللغة والمعنى والحقيقة والتواصل والبرهنة المرتبط بشكل أساسي باشكالية المركزية المتعلقة بالعقلنة والحداثة اعتمادا في ذلك إلى نظرية التداوليات الصورية التي يرى وظيفتها تتمقل في "اعادة بناء شروط الإمكان الكلية للتفاهم "
على اعتبار أن كل فاعل تواصلي يقوم بفعل الكلام مضطر للتعبير عن ادعاءات كلية للصلاحية على أساس أنه يقدر على تبريرها للمشاركة في أي عملية من عمليات التفاهم ،
وفي هذا السياق يقول هابرماس :
« يجب على المتكلم أن يختار نعبيرا معقولا لكي يتمكن المتكلم والمستمع من تفهم الواحد للآخر ، والمتكلم يجب أن تكون له نية توصيل مضمون حقيقي لكي يتمكن المستمع من مشاطرة معرفته، وعلى هذا المتكلم أيضا أن يعبر عن مقاصده بصدق لكي يتمكن المستمع من تصديق تلفظ المتكلم ( والثقة به) وأخيرا يتعين على المتكلم اختيار تلفظ دقيق بالقياس إلى المعايير والصيم الجاري بها العمل ، لكي يتمكن المستمع من قبول هذا التلفظ ، بطريقة تجعل المتكلم والمستمع في وضعية القدرة على الاتفاق على التلفظ ذي الخلفية المعيارية » .
اذا اعتبرنا أن التداوليات تشتغل على نظرية التواصل ، وأنه كل تداول في اللغة هو من صميم التواصل ، فإن هابرماس لم يغفل الجانب التداولي في نظريته التواصلية ، ورأى أن هناك ثلاث وظائف للتداوليات:
1 _ وصف شيء ما بواسطة جملة معينة.
2 _ التعبير عن قصد المتكلم .
3 _ اقامة تذاوتية بين المتكلم والمستمع.
ويمكن النظر إلى النموذح اللغوي الذي اقترحه هابرماس من منظور التداوليات الكلية، باعتبار أن هناك قطاعات محددة من الواقع تتمثل فيما يسميه بالطبيعة الخارجية والمجتمع، الطبيعة الداخلية واللغة ، تقابل هذه القطاعات مباشرة أنماطا محددة من العلاقات مع الواقع؛ الموضوعية _ المعيارية _ الذاتية _ التذاوتية.
خلاصة لما قيل عن التداوليات الصورية والنشاط التواصلي فإن الفرق بينها موجود في اعتبار الأولى تبحث عن الشروط الممكنة للتفاهم ، في حين تسعى نظرية النشاط التواصلي، باعتباره نشاطا موجها نحو التفاخم إلى وضع شروط مجتمع ممكن . مادام التفكير في التواصل شكله العقلاني البرهاني هو في العمق تفكير فيما هو مجتمعي.
كما قام هابرماس بتأسيس ما يسمى " أخلاقيات تواصلية " تلك التي تضبط تدخلات الناس وتنظرم أساليب تبادلهم ، وهي أخلاقيات تجد في العقل مرتكزها ومرجعها، بمعنى أن هابرماس يؤسس أخلاقيات التواصل على مبادئ عقلية تستمد بعض عناصرها من التداوليات الكلية ، لأن هذه التداوليات هي التي تسمح بالتفكير في الأساس الذي يجعل من التلفظات أو أفعال الكلام حقيقية أو دقيقة.
ثم أن هابرماس حين يؤكد على المناقشة وعلى التواصل الإجتماعي فإنه يسلم بأن التفاعل يتعين أن يحصل داخل مجال عمومي حديث يجمع بين العقلانية السياسية والمشروعية الديموقراطية
« التي يجعلها هابرماس مبدأً أساسيا في التفكير ، وبكونها تتوقف على الإمكانية الأساسية بنقد التمثلات الإجتماعية والمعايير الأخلاقية وأشكال المشروعية السياسية ، وبدفعها نحو التطور في اتجاه ما نعتبره حقيقيا أو دقيق » .
هكذا كان هابرماس في نظريته الفاعلية التواصلية ، جسد لنا جدلا قائما بين الحداثة المعيارية والأخلاق التواصلية والتي تؤكد الحقيقة القائمة على عملية تبادل البراهين والحجج، وبالتالي هو تتويج لاتفاق ذي طبيعية جماعية ( النظرية الإجماعية للحقيقة ) .